كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وبالجملة إن كان للقول الآخر وجه، فمن حيث وقوع الخلل في السكن المقصود بالنكاح، لاستمرار الخصومة بينهما، وذلك يقتضي أن يكون هذا قريبا من الإيلاء، وقد قال مالك:
وللحكمين أن يخالعانها دون رضاها، وهذا بعيد، فإن الحاكم لا يملك ذلك، فكيف يملكه الحكمان؟
نعم سميا حكمين- وإن كان الوكيل لا يسمى حكما- لأنه أشبه فعلهما، فهما يجتهدان ويتحريان الصلاح في إنفاذ القضايا بالعدل، إذا وكلا بذلك من جهة الزوجين، وما قضى به الحكمان من شيء فهو جائز ولكن برضا الزوجين لا دون رضاهما، واللّه تعالى إذا رأيناه يقول: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
فكيف يفهم منه جواز الخلع دون رضا الزوجين، وقد حظر الشرع أخذ شيء منها دون شريطة الخوف.
ودلت الآيات المطلقة، على أن لا يحل أكل المال إلا أن يكون تجارة عن تراض منكم.
ودل قول الرسول صلّى اللّه عليه وسلم، على أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه. وفي رواية: «بطيبة من نفسه».
قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ} الآية [36]: يدل على أن من أتى بطاعة لغير اللّه، لا تقع عن جهة القربة، لأنه أشرك به شيئا، وترك الإخلاص، ولأجله قال علماؤنا:
من توضأ أو اغتسل لتبرد أو تنظيف، لم يكن له أن يصلي به، لأنه أشرك به شيئا.
فإذا خرج الفعل عن كونه للّه، فلم يكن قربة، ولذلك قلنا:
إذا أحس بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره، لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه للّه خالصا، ثم قال تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا}.
فأوجب اللّه تعالى طاعة الوالدين في غير معصية الخالق، ولا يعني بطاعة الوالدين أن يكون لهما صرف منافع بدنه بعد البلوغ إلى ما شاء، وتكليفهما أفعالا، وإنما هو على ما ذكره اللّه تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما} الآية.
وليس للوالدين منع الولد من الأسفار للتجارة والزيارة وطلب الفوائد.
نعم يكره له أن يجاهد دون إذنهما، فإن في ذلك تغريرا بالمهجة.
ومن تعظيم الوالدين أن لا يقتله الولد، إلا إذا كان محاربا كافرا.
ثم ذكر الجار ذي القربى، وهو الجار الذي له حق القرابة، والجار الجنب، للبعيد منك نسبا، إذا كان مؤمنا، فيجتمع حق الجوار والإيمان، وورد في حق الجار أخبار عدة.
والصاحب بالجنب: قيل هو الرفيق في السفر، وقيل هو الجار الملاصق، وخصه اللّه تعالى بالذكر تأكيدا لحقه على الجار غير الملاصق.
والجار لفظ مجمل يتردد بين معاني، فقد يقال لأهل المحلة جيران، ولأهل الدرب جيران. وجعل اللّه تعالى الاجتماع في مدينة جوارا، قال اللّه تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} إلى قوله: {ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا}.
فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا.
والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة، وكف الأذى والمحاماة دونه.
وابن السبيل: هو المسافر ينزل عندك فتكرمه وتضيفه.
{وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}: هو الإحسان إليه بالإنفاق، وكسوته ومراعاته بالمعروف.
هذا هو الأصل، فجمعت الآية أمورا منها الندب، ومنها الواجب.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ (37)}:
البخل المذموم في الشرع الامتناع من أداء ما أوجب اللّه تعالى، وهو مثل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ}.
ونزلت الآية في اليهود، الذين بخلوا بالمال، فلم يعطوا منه حق اللّه تعالى، ومنعوا الأنصار من أداء حق اللّه، وخوفوهم بالفقر، ومنعوا العلم، وكتموا ما علموا من صفة النبي محمد صلّى اللّه عليه وسلم، والمباهاة، بل يقول:
كان ذلك من فضل اللّه، وما كان من قوتي ولا من عندي، فيتحدث بالنعم على وجه الشكر، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
وقال عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أفصح العرب ولا فخر».
فأراد بذكره التحدث بنعم اللّه تعالى، وأن يبلغ أمته من منزلته عند اللّه، ما يجب على أمته أن يعرفوه، وليعطوه من التعظيم حقه طاعة اللّه تعالى.
وقال عليه السلام: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس ابن متى».
وقد كان عليه السلام خيرا منه، ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار.
وقال اللّه تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى}.
ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «احثوا في وجوه المداحين التراب».
وذلك لئلا تزهو النفس وتترف، فإن النفس إذا ما مالت إلى شيء لطلب حظها، تولد منها قوة الهوى وضعف اليقين.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ..} الآية [38]: معناه: الكفار الذين يبخلون بالأموال لوجه اللّه، وينفقون رثاء وسمعة، في غير مرضاة اللّه.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} الآية [43]:
اختلف العلماء في المراد بالسكر بالآية.
فقال قائلون: هو السكران الذي لا يعلم حقيقته، وهذا معتل من وجه: فإن الذي لا يعقل كيف ينهى.
فقيل في ذلك: أراد به النهي عن التعرض للسكر، إذا كان عليهم فرض الصلاة، والنهي على أن عليهم أن يعيدوها، وهذا بعيد من وجه، وهو أن السكر إذا نافى ابتداء الخطاب، ينافي دوامه، وهذا حسن في إبطال هذا القول، إلا أن يقال:
إن ذلك نهي عن السكر، وإزالة العقل بشرب القدر المسكر، حالة وجوب الصلاة، وهذا رفع ما دل اللفظ عليه بالكلية، كأنه تعالى قال: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}، أي في حالة سكركم، فلا وجه للتأويل.
الوجه الآخر: قالوا المراد به السكران الذي لم ينتبذ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه، بل هو فاهم للخطاب، وهذا بعيد، فإنه إن كان كذلك، فلا يكون منهيا عن فعل الصلاة، بل الإجماع منعقد على أنه مأمور بفعل الصلاة والحالة هذه.
ومن أجل ذلك قال الحسن، وقتادة، في هذه الآية: فإنها منسوخة الحكم.
وعلى الجملة، اضطراب هذه المحامل ينشأ منه قول الشافعي رضي اللّه عنه: وهو أن المراد من الصلاة موضع الصلاة، فتقديره: لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة وأنتم سكارى، فإنه يتوقع منكم الفحش في المنطق، وتلويث المسجد، ولذلك قال: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}، يعني أن السكران ربما نزق، فتكلم بما لا يجوز له، كما قال علي: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى.
فنهاهم عن دخول المسجد والصلاة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم جماعة.
وهذا تأويل حسن تشهد له الأصول والمعقول، ومن أجله عطف عليه قوله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}، وذلك يقتضي جواز العبور للجنب في المساجد.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول: بل المراد به الصلاة، ولذلك قال: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} والذي ذكرتم يعلم ذلك.
فيقال: هذا في ضرب المثل، كالذي يقول للغضبان: اتئد وتثبت حتى يرجع إليك نفسك وتعلم ما تقول، إلا أن المراد به عدم العلم حقيقة.
وأبو حنيفة يخالف ذلك ويقول: بل المراد به أيضا، إذا حمل ذلك على الصلاة حمل قوله: {إلا عابري سبيل}، على الجنب المسافر إذا لم يجد الماء، فإنه يتيمم ويصلي، فيتعين إضمار عدم الماء فيه، وإذا عدم الماء في الحضر، كان كذلك.
وأحسبه يقول: بنى على الغالب، في أن الماء لا يعدم في الحضر، فيقال: فالذي يتيمم ليس جنبا عندكم حتى يصلي صلوات التيمم، وأحسبه يمنع هذا أيضا ويكابر، فيقال له:
إن تيمم الجنب، قد ذكره اللّه تعالى بعد هذا، بل فصل فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.
وكيف يذكر المسافر والسفر، ثم يذكر بعده من غير فصل؟ وهذا واضح في بطلان قوله:
وأما إذا أراد التيمم، ذكر الوجوه التي بها يجوز التيمم، فذكر المرض وذكر السفر، وذكر المجيء من الغائط، وعدم الماء مطلقا في أي موضع كان، فكيف عنى بعابر السبيل المسافر ها هنا، ولم يذكر عدم الماء، وهو الشرط لا السفر؟ وهذا لا جواب عنه فاعلمه، ولأن اللّه تعالى قال: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}، فأحال المنع على عدم العلم بالقول، والسكران الطافح في سكره، المغشى عليه، تمتنع الصلاة، عليه، لأنه لا يعلم ما يقول، بل لأنه محدث غير طاهر، ولا ساجد ولا راكع ولا ناو، فدل أن الامتناع إنما نشأ من القول فقط، وذلك على الوجه الذي قلناه في تنزيه المسجد عن هجر القول والخنا في المنطق، ومن أجل ذلك بطل تأويل من حمل السكر على النوم، لأن النائم لا يصلي، ولا يتصور منه الصلاة مع النوم، ولا طهارة مع النوم.
وبالجملة، كل ما اعترضنا به على الفصل الأول، فهو متوجه هاهنا فاعلم.
فإن قيل: سبب نزول هذه الآية، ما روي عن علي رضي اللّه عنه أنه دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر، فتقدم عبد الرحمن ابن عوف لصلاة المغرب فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، فالتبس عليه فأنزل اللّه تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى}.
والجواب أن المراد به ما قلناه، فإنه إذن التبس عليه، وتلا بداخل المسجد، حتى تكلم بما لا يجوز، وإلا فالصلاة واجبة في تلك الحالة قطعا، والذين منعوا اجتياز الجنب في المسجد، عرفوا أن كثيرا من السلف حملوا الآية على ما قلناه، وإن كان منهم من خالف.
قال: ومذاهب السلف مستقصاة في كتب الائمة، وليس ذكرها متعلقا بغرضنا، إلا أن منهم من تعلق بما روي عن جسرة بنت دجاجة أنها قالت: «سمعت عائشة رضي اللّه عنها تقول:
جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد فقال: وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب»
.
قال: فأمرهم بتوجيه البيوت الشارعة في المسجد، صيانة للمسجد عن اجتياز الجنب، لأنه لو أراد القعود، لم يكن لقوله «وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» معنى، لأنه القعود منهم بعد دخول المسجد، لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه، فدل أنه إنما أمر بتوجيه البيوت، لئلا يضطروا عند الجنابة إلى الاجتياز في المسجد، إذا لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد.
والاعتراض على هذا، أن الخبر لا يجوز أن يثبت، فإن الغالب من أحوالهم المنقولة، أنهم كانوا يغتسلون في بيوتهم، ولأن المنع من المرور لو كان المقصود، ولم يتأت لهم الاغتسال في بيوتهم، لقال لهم:
اتخذوا أبوابا تجتازون منها للاغتسال.
ويدل عليه أنه لو كان باب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، لأفضى إلى المسجد وأبواب حجر نسائه، وباب أبي بكر، وباب عليّ، وقال:
«سدوا هذه الخوخات غير خوخة أبي بكر وعليّ».
وعلى أن الذي ذكره هذا القائل، تسليم منه لجواز ذلك من قبل، ويدعى نسخا لا يصح وقوع النسخ به.